المادة    
وصف الله تعالى كلاً من الصبر والصفح والهجر بالجميل، كما قال تعالى: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:5] وقال: ((فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))[الحجر:85] وقال: ((وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))[المزمل:10].
  1. أعلى مراتب الصبر والصفح والهجر

    قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "الصبر الجميل: هو الذي لا ضجر فيه ولا ملل" وذلك أن الإنسان قد يصبر، لكن الصبر الجميل درجة أعلى، وهي التي لا ضجر فيها ولا ملل ولا تسخط.
    قال: "والهجر الجميل: هو الهجر الذي لا أذية فيه، والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب فيه".
    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون صاحبه في الذروة وفي القمة من التحلي بهذه الصفات ولاسيما الصبر.
    وهذه الأعمال -الصبر والصفح والهجر- لها درجة عليا، وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم متحلياً بها، فكان صبره صلى الله عليه وسلم من الصبر الجميل، وهجره من الهجر الجميل، وصفحه من الصفح الجميل، فبعض الناس قد يصبر ويصفح ويهجر، لكن لا يصل إلى هذه المرتبة، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي له أن يتحلى بأعلى المراتب في هذه الصفات وفي غيرها من الآداب.
  2. الصبر الجميل من صفات الأنبياء في الدعوة

    ولو أخذنا أنموذجاً من صبره صلى الله عليه وسلم لرأينا العجب العجاب، فقد جاءه ملك الجبال وقال له: {لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله} فبعد أن بلغ الهم منه مبلغه، وبعد الرجم والصد والإعراض والتكذيب له، يكون منه هذا الموقف من الصبر والصفح كما أمره ربه عز وجل.
    ولو نظرنا إلى قوله تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))[المعارج:4-5]، لوجدنا أن هناك حكمة في ذكر مقدار اليوم: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فإن ذلك يعطي شعوراً بأن عمر الإنسان كله محدود؛ فلو قضى الإنسان خمسين سنة في الدعوة إلى الله فهي لا شيء من خمسين ألف سنة؛ فليس هناك داع للتضجر؛ فاصبر صبراً جميلاً.
    ولو تأمل الإنسان واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله وما ابتلوا به، لتأثر واعتبر بذلك الاجتهاد مع الصبر في الدعوة والعمل؛ فإن نوحاً عليه السلام صبر وصابر ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً؛ سراً وجهاراً.. وما ترك وسيلة إلا واتخذها، كما فصل الله قصته في سورة نوح.
  3. الدعاة إلى الله في مقام أنبياء بني إسرائيل

    قال شيخ الإسلام : "إن الرسل -وهم أفضل خلق الله وقادة الدعاة- إنما أرسلهم الله تعالى للتخفيف من الشر ما أمكن، ولم يرسلهم لاستئصال الشر من العالم".
    ولم يبعثهم الله من أجل ألا يبقى على وجه الأرض نسمة كافرة، ولو بعثوا بذلك، لكان أولى الناس به محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الأنبياء والرسل، ودعوته عامة للناس أجمعين، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] ومع ذلك لم يبعث حتى يستأصل الشر من العالم.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد} فلذلك ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطاً بحصول النتائج، وإنما الواجب فيه هو: أن تتحقق الشروط الشرعية في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أما النتائج فهي على الله سبحانه وتعالى.
    ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه ما من أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقوم بذلك فيها إلا ويقيض الله له منها من يتبعه وينصره، ومن يقيم الله دينه على يديه؛ لأنها قد اختصت وفضلت ببقاء الطائفة المنصورة التي تقوم مقام أنبياء بني إسرائيل، فقد {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي، خلفه نبي} يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجدد الدين ويدعو الناس إلى الدين الحق، أما هذه الأمة فقد جعل الله مجدديها منها، وهم أئمة الهدى والدعاة إلى الله؛ فهم يقومون مقام الأنبياء، وما من أحد يقوم مقام الأنبياء إلا ويقيض الله له ناصراً، فلا تزال هذه الطائفة قائمة بإذن الله إلى قيام الساعة.
  4. أهمية الصبر الجميل في الدعوة

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ميزة الصبر وأهميته: "ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر؛ كقوله لخاتم الرسل؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) بعد أن أنزلت عليه سورة (اقرأ) التي بها نبئ".
    وقد قال ذلك شيخ الإسلام ليجمع بين المروي عن الصحابة في أول ما نزل من القرآن؛ فبعضهم قال: أول ما نزل (اقرأ)، وبعضهم قال: أول ما نزل (يا أيها المدثر).. فجمع شيخ الإسلام -وكثير من العلماء- بين هذه الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر.
    يقول شيخ الإسلام: فقال: (( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ))[المدثر:1] إلى قوله: (( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ))[المدثر:7].
    إذاً: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معاً.
    قال: "فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: ((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))[الطور:48] وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا))[المزمل:10] وقال: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))[الأحقاف:35] وقال: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] وقال: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))[النحل:127] وقال: ((وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))[هود:115]".
    والصبر مذكور في القرآن بكثرة؛ قال الإمام أحمد : "تدبرت كتاب الله، فوجدت الله تعالى قد ذكر الصبر في أكثر من تسعين موضعاً" وهذا فيه دليل على فضل الصبر وعظيم شأنه، وشيخ الإسلام قد ذكر منها يتعلق بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    وقد قال شيخ الإسلام قبل ذكر هذه الآيات: ولابد أيضاً أن يكون -يقصد الآمر والناهي- حليماً صبوراً على الأذى فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح كما قال لقمان لابنه: ((وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ))[لقمان:17] فمن الحكمة التي أوتيها لقمان، والتي أجراها الله على لسانه ما قاله لابنه: ((يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ))[لقمان:17] فإنه أعقب أمره له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوصية بالصبر، فمن لم يصبر، فلن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.